كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} هَذِهِ الْآيَةُ مُتَّصِلَةٌ بِمَا قَبْلَهَا أَشَدَّ الِاتِّصَالِ، وَالسِّيَاقُ مُحْكَمٌ مُتَّسِقٌ وَإِنْ ذَكَرُوا أَسْبَابًا خَاصَّةً لِنُزُولِهَا، أَقْسَمَ اللهُ تَعَالَى بِرُبُوبِيَّتِهِ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُخَاطِبًا لَهُ فِي ذَلِكَ خِطَابَ التَّكْرِيمِ، وَمِنَ الْمَعْهُودِ فِي اللُّغَةِ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْقَسَمِ يُعَدُّ تَكْرِيمًا، وَقَدْ كَانَتْ عَائِشَةُ تُقْسِمُ بِرَبِّ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا غَضِبَتْ مَرَّةً أَقْسَمَتْ بِرَبِّ إِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَلَّمَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ بَعْدَ رِضَاهَا، فَقَالَتْ: «إِنَّمَا أَهْجُرُ اسْمَكَ»، أَقْسَمَ تَعَالَى بِأَنَّ أُولَئِكَ الَّذِينَ رَغِبُوا عَنِ التَّحَاكُمِ إِلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمْثَالَهُمْ، وَهُمْ مِنَ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ الْإِيمَانَ زَعْمًا كَمَا تَقَدَّمَ لَا يُؤْمِنُونَ إِيمَانًا صَحِيحًا حَقِيقِيًّا- وَهُوَ إِيمَانُ الْإِذْعَانِ النَّفْسِيِّ- إِلَّا بِثَلَاثٍ:
الْأُولَى: أَنْ يُحَكِّمُوا الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ، أَيْ: فِي الْقَضَايَا الَّتِي يَخْتَصِمُونَ فِيهَا وَيَشْتَجِرُونَ فَلَمْ يَتَبَيَّنِ الْحَقُّ فِيهَا لَهُمْ، أَوْ لَمْ يَعْتَرِفْ بِهِ كُلٌّ مِنْهُمْ، بَلْ يَذْهَبُ كُلٌّ مَذْهَبًا فِيهِ، فَمَعْنَى شَجَرَ: اخْتَلَفَ وَاخْتَلَطَ الْأَمْرُ فِيهِ، قِيلَ: إِنَّ شَجْرًا- مَصْدَرُ شَجَرَ ـ، وَالتَّشَاجُرُ وَالِاشْتِجَارُ مَأْخُوذٌ مِنَ الشَّجَرِ الْمُلْتَفِّ الْمُتَدَاخِلِ بَعْضُهُ فِي بَعْضٍ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ سُمِّيَ الشَّجَرُ شَجَرًا لِاشْتِجَارِ أَغْصَانِهِ وَتَدَاخُلِهَا- وَقِيلَ: مِنَ الشِّجَارِ- كَكِتَابٍ- وَهُوَ خَشَبُ الْهَوْدَجِ لِاشْتِبَاكِ بَعْضِهِ فِي بَعْضٍ، وَقِيلَ: مِنَ الشَّجَرِ- بِالْفَتْحِ- وَهُوَ مَفْتَحُ الْفَمِ لِكَثْرَةِ الْكَلَامِ فِي الْأُمُورِ الَّتِي يَقَعُ النِّزَاعُ فِيهَا، وَكُلُّ هَذِهِ الْمَعَانِي مُنَاسِبَةٌ، وَتَحْكِيمُهُ تَفْوِيضُ أَمْرِ الْحُكْمِ إِلَيْهِ.
الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: {ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ} الْحَرَجُ: الضَّيقُ، وَالْقَضَاءُ: الْحُكْمُ، وَزَعَمُ بَعْضُ الْمُسْتَشْرِقِينَ مِنَ الْإِفْرِنْجِ أَنَّ لَفْظَ الْقَضَاءِ لَمْ يَكُنْ مُسْتَعْمَلًا فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ الْأَوَّلِ بِمَعْنَى الْحُكْمِ، وَهَذَا مِنْ دَعَاوِيهِمُ الَّتِي يَتَجَرَّءُونَ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ اسْتِقْصَاءٍ وَلَا عِلْمٍ، وَالْمَعْنَى: ثُمَّ تُذْعِنُ نُفُوسُهُمْ لِقَضَائِكَ وَحُكْمِكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ بِحَيْثُ لَا يَكُونُ فِيهَا ضِيقٌ وَلَا امْتِعَاضٌ مِنْ قَبُولِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ، وَلَمَّا كَانَ الْإِنْسَانُ لَا يَمْلِكُ نَفْسَهُ أَنْ يَسْبِقَ إِلَيْهَا الْأَلَمُ وَالْحَرَجُ إِذَا خَسِرَتْ مَا كَانَتْ تَرْجُو مِنَ الْفَوْزِ، وَالْحُكْمِ لَهَا بِالْحَقِّ الْمُخْتَصَمِ فِيهِ، عَفَا اللهُ تَعَالَى عَنِ الْحَرَجِ يُفَاجِئُ النَّفْسَ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأُولَى وَجَعَلَ هَذَا الشَّرْطَ عَلَى التَّرَاخِي فَعَطَفَهُ بِثُمَّ وَالْمُؤْمِنُ الْكَامِلُ الْإِيمَانِ يَنْشَرِحُ صَدْرُهُ لِحُكْمِ الرَّسُولِ مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ لِعِلْمِهِ أَنَّهُ الْحَقُّ، وَأَنَّ الْخَيْرَ لَهُ فِيهِ، وَالسَّعَادَةَ فِي الْإِذْعَانِ لَهُ، فَإِذَا كَانَ فِي إِيمَانِهِ ضَعْفٌ مَا ضَاقَ صَدْرُهُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأُولَى، ثُمَّ يَعُودُ عَلَى نَفْسِهِ بِالذِّكْرَى وَيَنْحَى عَلَيْهَا بِاللَّوْمِ حَتَّى تَخْشَعَ وَتَنْشَرِحَ بِنُورِ الْإِيمَانِ وَإِيثَارِ الْحَقِّ الَّذِي حَكَمَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْهَوَى، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِنَفْيِ وِجْدَانِ الْحَرَجِ عَدَمُ الشَّكِّ فِي حَقِّيَّةِ الْحُكْمِ بِأَنْ يَكُونَ مُوقِنًا بِأَنَّهُ قَضَاءٌ بِمُرِّ الْحَقِّ الَّذِي لَا شُبْهَةَ فِيهِ، قَالَ هَذَا مَنْ قَالَهُ وَهُوَ خِلَافُ الْمُتَبَادَرِ؛ لِأَنَّ وِجْدَانَ الْقَلْبِ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ التَّكْلِيفُ، وَقَدْ عَلِمْتَ مَا هُوَ الصَّوَابُ.
الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} التَّسْلِيمُ هُنَا: الِانْقِيَادُ بِالْفِعْلِ، وَمَا كُلُّ مَنْ يَعْتَقِدُ حَقِّيَّةَ الْحُكْمِ وَلَا يَجِدُ فِي نَفْسِهِ ضِيقًا مِنْهُ يَنْقَادُ لَهُ بِالْفِعْلِ وَيُنَفِّذُهُ طَوْعًا، وَإِنْ لَمْ يَخْشَ فِي تَرْكِ الْعَمَلِ بِهِ مُؤَاخَذَةً فِي الدُّنْيَا.
وَاسْتَدَلُّوا بِالْآيَةِ عَلَى عِصْمَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْخَطَأِ فِي الْحُكْمِ وَغَيْرِهِ، وَذَهَبَ الرَّازِيُّ إِلَى عَدَمِ مُعَارَضَةِ هَذَا بِفَتْوَاهُ فِي أَسْرَى بَدْرٍ، وَمَا فِي مَعْنَاهُ مِمَّا عَاتَبَهُ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: {عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} [9: 43]، وَقَوْلِهِ: {عَبَسَ وَتَوَلَّى} [80: 1]، إِلَخْ، وَقَوْلِهِ: {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكَ} [66: 1]، وَأَحَالَ عَلَى تَأْوِيلِهِ لِهَذِهِ الْآيَاتِ فِي مَوَاضِعِهَا، وَشَكَّ فِي عِصْمَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحُكْمِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَحْكُمُ إِلَّا بِالْحَقِّ بِحَسَبِ صُورَةِ الدَّعْوَى وَظَاهِرِهَا لَا بِحَسَبِ الْوَاقِعِ فِي نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ فِي شَرِيعَتِهِ عَلَى الظَّاهِرِ، وَاللهُ يَتَوَلَّى السَّرَائِرَ.
وَقَدْ قَالَ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، فَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ مُسْلِمٍ فَإِنَّمَا هِيَ قِطْعَةٌ مِنَ النَّارِ، فَلْيَأْخُذْهَا أَوْ لِيَتْرُكْهَا» رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ كُلُّهُمْ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ دِينِكُمْ فَخُذُوا بِهِ، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ رَأْيِي فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، وَفِي مَعْنَاهُ: «إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ وَإِنَّ الظَّنَّ يُخْطِئُ وَيُصِيبُ، وَلَكِنْ مَا قُلْتُ لَكُمْ: قَالَ اللهُ فَلَنْ أَكْذِبَ عَلَى اللهِ» رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ طَلْحَةَ وَصَحَّحُوهُ، وَلِأَجْلِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ كَانُوا يَسْأَلُونَهُ إِذَا أَمَرَ بِأَمْرٍ لَمْ يَظْهَرْ لَهُمْ أَنَّهُ الرَّأْيُ هَلْ هُوَ عَنْ وَحْيٍ أَوْ رَأْيٍ؟ فَإِنْ كَانَ عَنْ وَحْيٍ أَطَاعُوا وَسَلَّمُوا تَسْلِيمًا، وَإِنْ كَانَ رَأْيًا ذَكَرُوا مَا عِنْدَهُمْ، وَرُبَّمَا رَجَعَ إِلَى رَأْيِهِمْ كَمَا فَعَلَ يَوْمَ بَدْرٍ، فَيَا لَلَّهِ مَا أَكْمَلَ هَدْيَهُ، وَمَا أَجْمَلَ تَوَاضُعَهُ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأُولَئِكَ الصَّحْبِ الْكَامِلِينَ وَسَلَّمَ.
وَاسْتَدَلُّوا بِالْآيَةِ أَيْضًا عَلَى أَنَّ النَّصَّ لَا يُعَارَضُ وَلَا يُخَصَّصُ بِالْقِيَاسِ، فَمَنْ بَلَغَهُ حَدِيثُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَدَّهُ بِمُخَالَفَةِ قِيَاسِهِ لَهُ فَهُوَ غَيْرُ مُطِيعٍ الرَّسُولَ، وَلَا مِمَّنْ تَصْدُقُ عَلَيْهِ الْخِصَالُ الثَّلَاثَةُ الْمَشْرُوطَةُ فِي صِحَّةِ الْإِيمَانِ بِنَصِّ الْآيَةِ، وَمُخَالَفَةُ نَصِّ الْقُرْآنِ بِالْقِيَاسِ أَعْظَمُ جُرْمًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا.
وَتَدُلُّ الْآيَةُ بِالْأَوْلَى عَلَى بُطْلَانِ التَّقْلِيدِ، فَمَنْ ظَهَرَ لَهُ حُكْمُ اللهِ أَوْ حُكْمُ رَسُولِهِ فِي شَيْءٍ وَتَرَكَهُ إِلَى قَوْلِ الْفُقَهَاءِ الَّذِينَ يَتَقَلَّدُ مَذْهَبَهُمْ كَانَ غَيْرَ مُطِيعٍ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ كَمَا أَمَرَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَإِذَا قُلْنَا: إِنَّ لِلْعَامِّيِّ أَنْ يَتْبَعَ الْعُلَمَاءَ فَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّ يَتَّخِذَهُمْ شَارِعِينَ، وَيُقَدِّمَ أَقْوَالَهُمْ عَلَى أَحْكَامِ اللهِ وَرَسُولِهِ الْمَنْصُوصَةِ، وَإِنَّمَا يَتْبَعُهُمْ بِتَلَقِّي هَذِهِ النُّصُوصِ عَنْهُمْ وَالِاسْتِعَانَةِ بِهِمْ عَلَى فَهْمِهَا لَا فِي آرَائِهِمْ وَأَقْيِسَتِهِمُ الْمُعَارِضَةِ لِلنَّصِّ، مِثَالُ ذَلِكَ أَنَّ بَعْضَ الْفُقَهَاءِ يَقُولُ: إِنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ عَلَى الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ، فَإِذَا حَكَمَ لَكَ بِمَا تَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ لَكَ صَارَ حَلَالًا لَكَ أَنْ تَأْكُلَهُ، وَنَصُّ الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ الَّذِي أَوْرَدْنَاهُ آنِفًا أَنَّ مَنْ قُضِيَ لَهُ بِحَقِّ أَحَدٍ بِنَاءً عَلَى ظَاهِرِ الدَّعْوَى وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ بِصَاحِبِ هَذَا الْحَقِّ فَإِنَّمَا هِيَ قِطْعَةٌ مِنَ النَّارِ إِذَا أَخَذَهَا، فَمَنْ بَلَغَهُ الْحَدِيثُ وَاعْتَقَدَ صِحَّتَهُ وَلَمْ يُعَارِضْهُ عِنْدَهُ نَصٌّ يُرَجَّحُ عَلَيْهِ أَوْ يَنْسَخُهُ بِالدَّلِيلِ لَا بِالِاحْتِمَالِ، وَبَقِيَ مُقَلِّدًا لِقَوْلِ ذَلِكَ الْفَقِيهِ يَسْتَحِلُّ مَا يُحْكَمُ لَهُ بِهِ مِنْ حَقِّ غَيْرِهِ كَانَ غَيْرَ مُطِيعٍ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلَا مُتَّصِفًا بِالْخِصَالِ الَّتِي تَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا صِحَّةُ الْإِيمَانِ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلَا وَرَبِّكَ} إِلَخْ، تَفْرِيعٌ عَلَى مَا سَبَقَهُ وَهُوَ نَفْيٌ وَإِبْطَالٌ لِظَنِّ الظَّانِّينَ أَنَّهُمْ بِمُجَرَّدِ مُحَافَظَتِهِمْ عَلَى أَحْكَامِ الدِّينِ الظَّاهِرَةِ يَكُونُونَ صَحِيحِي الْإِيمَانِ مُسْتَحِقِّينَ لِلنَّجَاةِ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ وَالْفَوْزِ بِثَوَابِهَا، لَا وَرَبِّكَ لَا يَكُونُونَ مُؤْمِنِينَ حَتَّى يَكُونُوا مُوقِنِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مُذْعِنِينَ فِي بَوَاطِنِهِمْ، وَلَا يَكُونُونَ كَذَلِكَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ، وَاخْتَلَطَ بَيْنَهُمْ مِنَ الْحُقُوقِ، ثُمَّ بَعْدَ أَنْ تَحْكُمَ بَيْنَهُمْ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمُ الضِّيقَ الَّذِي يَحْصُلُ لِلْمَحْكُومِ عَلَيْهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ خَاضِعًا لِلْحُكْمِ فِي قَلْبِهِ، فَإِنَّ الْحَرَجَ إِنَّمَا يُلَازِمُ قَلْبَ مَنْ لَمْ يَخْضَعْ، ذَلِكَ بِأَنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يُنَازِعُ أَحَدًا فِي شَيْءٍ إِلَّا بِمَا عِنْدَهُ مِنْ شُبْهَةِ الْحَقِّ، فَإِذَا كَانَ كُلٌّ مِنَ الْخَصْمَيْنِ يَرْضَى بِالْحَقِّ مَتَى عَرَفَهُ وَزَالَتِ الشُّبْهَةُ عَنْهُ كَمَا هُوَ شَأْنُ الْمُؤْمِنِ فَحُكْمُ الرَّسُولِ يُرْضِيهِمَا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا؛ لِأَنَّهُ أَعْدَلُ مَنْ يَحْكُمُ بِالْحَقِّ.
أَقُولُ: أَمَّا مَا ذَكَرُوهُ فِي أَسْبَابِ نُزُولِ الْآيَةِ، فَقَدْ أَوْرَدَ السُّيُوطِيُّ مِنْهُ فِي لُبَابِ النُّقُولِ مَا رَوَاهُ الْأَئِمَّةُ السِّتَّةُ أَيِ: الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: خَاصَمَ الزُّبَيْرُ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ فِي شِرَاجِ الْحَرَّةِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اسْقِ يَا زُبَيْرُ ثُمَّ أَرْسِلِ الْمَاءَ إِلَى جَارِكَ، قَالَ الْأَنْصَارِيُّ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِكَ؟ فَتَلَوَّنَ وَجْهُهُ، ثُمَّ قَالَ: اسْقِ يَا زُبَيْرُ ثُمَّ احْبِسِ الْمَاءَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى الْجَدْرِ، ثُمَّ أَرْسِلِ الْمَاءَ إِلَى جَارِكَ وَاسْتَوْعَبَ الزُّبَيْرُ حَقَّهُ وَكَانَ كَمَا أَشَارَ عَلَيْهِمَا بِأَمْرٍ لَهُمَا فِيهِ سَعَةٌ، قَالَ الزُّبَيْرُ: فَمَا أَحْسَبُ هَذِهِ الْآيَاتِ إِلَّا نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ: {فَلَّا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ وَحَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ اخْتَصَمَا فِي مَاءٍ فَقَضَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَسْقِيَ الْأَعْلَى، ثُمَّ الْأَسْفَلُ، وَهَذِهِ عَيْنُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى مُخْتَصَرَةٌ، وَفِيهَا جَزْمٌ بِأَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي هَذِهِ الْوَاقِعَةِ، وَالصَّوَابُ أَنَّ هَذَا اجْتِهَادٌ مِنَ الرُّوَاةِ لِانْطِبَاقِ الْآيَةِ عَلَى الرِّوَايَةِ.
{وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا}.
الْكَلَامُ مُتَّصِلٌ بِمَا سَبَقَ وَالسِّيَاقُ لَمْ يَنْتَهِ، وَالْمَرْوِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ} عَائِدٌ لِلْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ سَبَقَ الْقَوْلُ فِيهِمْ، وَمَنْ كَانَ مِثْلَهُمْ فَلَهُ حُكْمُهُمْ، إِذِ الْأَحْكَامُ لَيْسَتْ مَنُوطَةً بِذَوَاتِ الْمُكَلَّفِينَ وَشُخُوصِهِمْ، بَلْ بِصِفَاتِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ، أَيْ: لَوْ أَمَرْنَاهُمْ بِقَتْلِ أَنْفُسِهِمْ أَيْ بِتَعْرِيضِهَا لِلْقَتْلِ الْمُحَقَّقِ أَوِ الْمَظْنُونِ ظَنًّا رَاجِحًا، وَقِيلَ: قَتْلُهَا هُوَ الِانْتِحَارُ، كَمَا قِيلَ مِثْلُ هَذَا فِي أَمْرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِقَتْلِ أَنْفُسِهِمْ تَوْبَةً إِلَى رَبِّهِمْ مِنْ عِبَادَةِ الْعِجْلِ، أَوْ قُلْنَا لَهُمُ: اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ أَيْ: أَوْطَانِكُمْ وَهَاجِرُوا إِلَى بِلَادٍ أُخْرَى مَا فَعَلُوهُ أَيِ: الْمَأْمُورُ بِهِ مِنَ الْقَتْلِ وَالْهِجْرَةِ مِنَ الْوَطَنِ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ هَذِهِ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ، وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ {قَلِيلًا} بِالنَّصْبِ، قَالُوا: وَكَذَا هُوَ فِي مَصَاحِفِ أَهْلِ الشَّامِ وَمُصْحَفِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وَهُمَا لُغَتَانِ لِلْعَرَبِ- وَإِعْرَابُهُمَا ظَاهِرٌ- بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى لَنَا أَنَّ الْمُؤْمِنَ الصَّادِقَ هُوَ مَنْ يُطِيعُ اللهَ تَعَالَى وَرَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَهِ وَالسَّهْلِ وَالشَّاقِّ، وَلَوْ قَتْلُ النَّفْسِ وَالْخُرُوجُ مِنَ الدَّارِ، وَهُمَا مُتَقَارِبَانِ؛ لِأَنَّ الْجِسْمَ دَارُ الرُّوحِ، وَالْوَطَنَ دَارُ الْجِسْمِ، وَأَنَّ الْمُنَافِقَ هُوَ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ مَا يُوَافِقُ هَوَاهُ وَغَرَضَهُ، فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ، وَأَنَّهُ قَلَّمَا يُوجَدُ فِي أُولَئِكَ الْمُنَافِقِينَ مَنْ يَصْبِرُ عَلَى نَارِ الْفِتْنَةِ- رِيَاءً وَتَقِيَّةً- فَيُطِيعُ فِيمَا يُكْتَبُ عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ التَّعَرُّضُ لِلْقَتْلِ، وَالْجَلَاءُ عَنِ الْوَطَنِ وَالْأَهْلِ.
وَقِيلَ: إِنَّ الْكَلَامَ فِي جُمْلَةِ الْمُكَلَّفِينَ مِنَ النَّاسِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ ضَعِيفًا كَمَا تَقَدَّمَ فِي آيَةِ (28) مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ، فَلَوْ كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَشُقُّ احْتِمَالُهُ كَقَتْلِ الْأَنْفُسِ وَالْخُرُوجِ مِنَ الْوَطَنِ لَعَصَى الْكَثِيرُ مِنْهُمْ، وَلَمْ يُطِعْ إِلَّا الْقَلِيلُ وَهُمْ أَصْحَابُ الْعَزَائِمِ الْقَوِيَّةِ الَّذِينَ يُؤْثِرُونَ رِضْوَانَ اللهِ عَلَى حُظُوظِهِمْ وَشَهَوَاتِهِمْ، وَلَكِنَّنَا لَمْ نَكْتُبْ عَلَيْهِ ذَلِكَ كَمَا كَتَبْنَاهُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ قَبْلِهِمْ، بَلْ أَرْسَلْنَا خَاتَمَ رُسُلِنَا بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ الَّتِي تَجْمَعُ لَهُمْ بَيْنَ حَسَنَةِ الدُّنْيَا وَحَسَنَةِ الْآخِرَةِ فَلَا عُذْرَ لَهُمْ بِالضَّعْفِ الْبَشَرِيِّ أَنْ عَصَوُا الرَّسُولَ، وَاتَّبَعُوا الطَّاغُوتِ، وَإِنَّمَا ظَلَمُوا بِذَلِكَ أَنْفُسَهُمْ.
{وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ} مِنَ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي الْمَقْرُونَةِ بِحُكْمِهَا، وَبَيَانِ فَائِدَتِهَا، وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ لِمَنْ عَمِلَ بِهَا وَمَنْ صَدَّ عَنْهَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ فِي حِفْظِ مَصَالِحِهِمْ، وَاعْتِزَازِ أَنْفُسِهِمْ بِارْتِقَاءِ أُمَّتِهِمْ، وَفِي عَاقِبَةِ أَمْرِهِمْ وَآخِرَتِهِمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا لَهُمْ فِي أَمْرِ دِينِهِمْ، التَّثْبِيتُ: التَّقْوِيَةُ بِجَعْلِ الشَّيْءِ ثَابِتًا رَاسِخًا، وَإِنَّمَا كَانَ الْعَمَلُ وَإِتْيَانُ الْأُمُورِ الْمَوْعُوظُ بِهَا فِي الدِّينِ يَزِيدُ الْعَامِلَ قُوَّةً وَثَبَاتًا؛ لِأَنَّ الْأَعْمَالَ هِيَ الَّتِي يَكُونُ بِهَا الْعِلْمُ الْإِجْمَالِيُّ الْمُبْهَمُ تَفْصِيلِيًّا جَلِيًّا، وَهِيَ الَّتِي تَطْبَعُ الْأَخْلَاقَ وَالْمَلِكَاتِ فِي نَفْسِ الْعَامِلِ، وَتُبَدِّدُ الْمَخَاوِفَ وَالْأَوْهَامَ مِنْ نَفْسِهِ، مِثَالُ ذَلِكَ: أَنَّ بَذْلَ الْمَالِ فِي سَبِيلِ اللهِ تَعَالَى بِأَعْمَالِ الْبِرِّ آيَةٌ مِنْ أَقْوَى آيَاتِ الْإِيمَانِ، وَقُرْبَةٌ مِنْ أَكْبَرِ أَسْبَابِ السَّعَادَةِ وَالرِّضْوَانِ، فَمَنْ آمَنَ بِذَلِكَ وَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ لَا يَكُونُ عِلْمُهُ بِمَنَافِعِهِ وَفَوَائِدِهِ لَهُ وَلِلْأُمَّةِ وَالْمِلَّةِ إِلَّا نَاقِصًا، وَكُلَّمَا اعْتَنَّ لَهُ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ الْبَذْلِ تَحَدَّاهُ فِي نَفْسِهِ طَائِفَةٌ مِنْ أَسْبَابِ الْإِمْسَاكِ وَالْبُخْلِ، كَالْخَوْفِ مِنَ الْفَقْرِ وَالْإِمْلَاقِ، أَوْ نُقْصَانِ مَالِهِ عَنْ مَالِ بَعْضِ الْأَقْرَانِ، أَوْ تَعْلِيلِ النَّفْسِ بِادِّخَارِ مَا احْتِيجَ إِلَى بَذْلِهِ الْآنَ لِيُوضَعَ فِيمَا هُوَ خَيْرٌ وَأَنْفَعُ فِي مُسْتَقْبَلِ الزَّمَانِ، فَإِذَا هُوَ اعْتَادَ الْبَذْلَ صَارَ السَّخَاءُ خُلُقًا لَهُ، لَا يُثْنِيهِ وَسْوَاسٌ وَلَا خَوْفٌ، وَاتَّسَعَتْ مَعْرِفَتُهُ بِطُرُقِ مَنَافِعِهِ، وَوُضِعَ الْمَالُ فِي خَيْرِ مَوَاضِعِهِ.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ فِي مَصَالِحِهِمْ، وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا لَهُمْ فِي إِيمَانِهِمْ، فَإِنَّ الِامْتِثَالَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا يَتَضَمَّنُ الذِّكْرَى، وَتَصَوُّرَ احْتِرَامِ أَمْرِ اللهِ، وَالشُّعُورَ بِسُلْطَانِهِ، وَإِمْرَارَ هَذِهِ الذِّكْرَى عَلَى الْقَلْبِ عِنْدَ كُلِّ عَمَلٍ مَشْرُوعٍ يُقَوِّي الْإِيمَانَ وَيُثْبِتُهُ، وَكُلَّمَا عَمِلَ الْمَرْءُ بِالشَّرِيعَةِ عَمَلًا صَحِيحًا انْفَتَحَ لَهُ بَابُ الْمَعْرِفَةِ فِيهَا، بَلْ ذَلِكَ مُطَّرِدٌ فِي كُلِّ عِلْمٍ.
أَقُولُ: وَذَكَرَ الرَّازِيُّ فِي التَّثْبِيتِ ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ:
1- أَنَّ ذَلِكَ أَقْرَبُ إِلَى ثَبَاتِهِمْ وَاسْتِمْرَارِهِمْ؛ لِأَنَّ الطَّاعَةَ تَدْعُو إِلَى مِثْلِهَا.
2- أَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ أَثْبَتَ فِي نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ، وَالْحَقُّ ثَابِتٌ وَالْبَاطِلُ زَائِلٌ.
3- أَنَّ الْإِنْسَانَ يَطْلُبُ الْخَيْرَ أَوَّلًا، فَإِذَا حَصَّلَهُ طَلَبَ أَنْ يَكُونَ الْحَاصِلُ ثَابِتًا بَاقِيًا، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} إِشَارَةٌ إِلَى الْحَالَةِ الْأُولَى، وَقَوْلُهُ: {وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} إِشَارَةٌ إِلَى الْحَالَةِ الثَّانِيَةِ.
وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ فِي كَيْفِيَّةِ الْأَدَاءِ اخْتِلَافُ الْقُرَّاءِ فِي أَنَّ وأَوْ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا} قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو، وَيَعْقُوبُ بِكَسْرِ نُونِ أَنْ وَضَمِّ وَاوِ أَوْ وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ بِكَسْرِهِمَا، وَالْبَاقُونَ بِضَمِّهَا وَهُمَا لُغَتَانِ، فَأَمَّا الْكَسْرُ فَهُوَ الْأَصْلُ فِي التَّخَلُّصِ مِنَ الْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ عِنْدَ النُّحَاةِ، وَأَمَّا الضَّمُّ فَإِجْرَاؤُهُمَا مَجْرَى الْهَمْزَةِ الْمُتَّصِلَةِ بِالْفِعْلِ تُنْقَلُ حَرَكَةُ مَا بَعْدَهَا إِلَيْهَا، وَأَمَّا قِرَاءَةُ أَبِي عَمْرٍو فَجَمَعَ بَيْنَ طَرِيقَتَيِ الْعَرَبِ فِي ذَلِكَ مِنْ قَبِيلِ التَّلْفِيقِ، وَمِنْهَا أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {مَا فَعَلُوهُ} يَعُودُ ضَمِيرُهُ إِلَى الْقَتْلِ وَالْخُرُوجِ، وَأَفْرَدَ الضَّمِيرَ لِأَنَّ الْفِعْلَ جِنْسٌ وَاحِدٌ، أَوْ بِتَأْوِيلِ مَا ذُكِرَ.
{وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا}، {إِذًا} حَرْفُ جَوَابٍ وَجَزَاءٍ، وَلِذَلِكَ ذُكِرَ فِي الْكَشَّافِ أَنَّهَا هُنَا جَوَابٌ لِسُؤَالٍ مُقَدَّرٍ كَأَنَّهُ قِيلَ: مَاذَا يَكُونُ مِنْ هَذَا الْخَيْرِ الْعَظِيمِ وَالتَّثْبِيتِ؟ فَأُجِيبُ: هُوَ أَنْ نُؤْتِيَهُمْ أَيْ: نُعْطِيَهُمْ أَجْرًا عَظِيمًا، إِلَخْ.
{وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} قِيلَ: إِنَّ هَذَا الصِّرَاطَ عِبَارَةٌ عَنْ دِينِ الْحَقِّ، وَقِيلَ: هُوَ مَوْطِنٌ مِنْ مَوَاطِنِ الْقِيَامَةِ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ هُنَا هُوَ طَرِيقُ الْعَمَلِ الصَّالِحِ عَلَى الْوَجْهِ الصَّحِيحِ.
وَأَقُولُ: إِنَّ هَذِهِ الْهِدَايَةَ هِيَ الْهِدَايَةُ الرَّابِعَةُ الَّتِي شَرَحَهَا الْأُسْتَاذُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ، وَالصِّرَاطُ هُنَا: هُوَ الصِّرَاطُ هُنَاكَ، صِرَاطُ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْمَذْكُورِينَ فِي الْآيَةِ التَّالِيَةِ، غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ، وَصَرَّحَ بِذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ. اهـ.